ابو واصف ...
أمام منزلنا شجرة توت شامخة ، لم تكن كغيرها من الاشجار بل كانت اكبرهن حجماً واكثرهن عطاء ، واغناهن تراثاً وكأنها ثارت على اشجار الحي وانتزعت منهن كل هدايا الاعياد ، حوت في عبابها عرزالا لا تراه الا اذا اقتربت منها وكأنها ام تحمي ولدها الرضيع خيفة عليه من لافحة الهجير ، كانت أُماً معطاء مضياف تحت فروعها الممتدة كيدي كريم ، اجتمع ابناء الحي فقدمت لهم هواءً عليلاً على اطباق ورقها واستمتعت الى حكاياهم دون ملل او كلل وقذفت بظلها الوارف على الجميع دون تفرقة ، لم يكن العرزال اقل عطاءً منها فعلى وزّال سريره أنس الاصحاب ، فسخر حيطانه ليؤرخو عليه خفقات قلوبهم ، فهنا اشعار وهناك اسماء زوار والحائط الاخر نافذة تسهر على الدار .
حقاً كانت قصرنا الصيفي ، كانت تنقل ظلها من جهة اخرى فينتقل ضيوفها معه بمقاعدهم وكأنها بوصلة الدار فمن هنا ترى الريحان يعانق الافق ومن هناك ترى امواج المتوسط وقد انحازت تغسل اقدام الجنوب وخلفها ترى الشمس تستحم بماء الغروب وتتظاهر بالغرق ، وخلال تجوالها بنا نرى هلال قريتنا وصليبها وكأن تلك التوته تريد ان ترينا سر الحياة في يوم واحد , لقد ارتدت توتتنا ثوبها الاخضر طوال ايام الربيع والصيف فتمايلت كطفلة في فستانها الجديد وكلما اجبرها الخريف على خلعه جاء الشتاء بفيض الوفاء وخلع عليها جبته البيضاء لئلا تراها عيون الحاسدين في العراء .
كانت وفية لنا ولم نكن لها اوفياء فما ان تصلبت قوادمنا حتى طرنا الى بلاد الاغتراب فاجهشت بالبكاء وبدأ العرزال بالقاء مرثية الصرير صارخاً " اين الاصحاب والندماء ؟ اين فلذات القلب وقرة العيون ؟ " ويهجع لعله يسمع غير الصدى وحفيف الاوراق ، واستمر العرزال على هذا الحال حتى خارت قواه وهوى ارضاً وتبعثرت اضلاعه في كل صوب ، أما التوته الثكلى فلم تلم سوى منزل الاسمنت والحديد وعدته مسؤولا عن خروجنا منه وفكرت بالانتقام فسخَّرت جذورها لاقتلاع مداميكه واحداً تلو الاخر فخف اليها مالك الاسرار وصرخ بوجهها قائلا " هذا بيت اخوتي واصدقائي هنا تسكن ذكراهم وتطوف ارواحهم وهناك مرتع صباي ياناكرة الجميل ، انهم عائدون ولو بعد حين " وانهال عليها بسيفه الحاد ، اهتزت التوته نادمة وحشرجت أحرفها متهدجة " كلانا انتقم لذات السبب " واغمضت عينيها ورفت بآخر اوراقها وطارت لتلتقي نجماً في السماء ولم يبق غير المسك والذكرى ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق